فقالوا ردا لدعوته, ومعارضة له بما ليس يصلح للمعارضة: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ أي: كيف نتبعك ونحن لا نرى أتباعك إلا أسافل الناس, وأراذلهم, وسقطهم. بهذا يعرف تكبرهم عن الحق, وجهلهم بالحقائق, فإنهم لو كان قصدهم الحق, لقالوا - إن كان عندهم إشكال وشك في دعوته - بيّن لنا صحة ما جئت به بالطرق الموصلة إلى ذلك، ولو تأملوا حق التأمل, لعلموا أن أتباعه, هم الأعلون, خيار الخلق, أهل العقول الرزينة, والأخلاق الفاضلة, وأن الأرذل, من سلب خاصية عقله, فاستحسن عبادة الأحجار, ورضي أن يسجد لها, ويدعوها, وأبى الانقياد لدعوة الرسل الكمل. وبمجرد ما يتكلم أحد الخصمين في الكلام الباطل, يعرف فساد ما عنده بقطع النظر عن صحة دعوى خصمه، فقوم نوح, لما سمعنا عنهم, أنهم قالوا في ردهم دعوة نوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ فبنوا على هذا الأصل, الذي كل أحد يعرف فساده, رد دعوته - عرفنا أنهم ضالون مخطئون, ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة, ما يفيد الجزم واليقين, بصدقه وصحة ما جاء به.
فقال نوح عليه السلام: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي أعمالهم وحسابهم على الله إنما علي التبليغ وأنتم دعوهم عنكم إن كان ما جئتكم به الحق فانقادوا له وكل له عمله
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ كأنهم - قبحهم الله - طلبوا منه أن يطردهم عنه تكبرا وتجبرا ليؤمنوا فقال وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ فإنهم لا يستحقون الطرد والإهانة وإنما يستحقون الإكرام القولي والفعلي كما قال تعالى وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما أنا إلا منذر ومبلغ عن الله ومجتهد في نصح العباد وليس لي من الأمر شيء إن الأمر إلا لله .
فاستمر نوح عليه الصلاة والسلام على دعوتهم ليلا ونهارا سرا وجهارا فلم يزدادوا إلا نفورا و قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ من دعوتك إيانا إلى الله وحده لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي لنقتلك شر قتلة بالرمي بالحجارة كما يقتل الكلب فتبا لهم ما أقبح هذه المقابلة يقابلون الناصح الأمين الذي هو أشفق عليهم من أنفسهم بشر مقابلة لا جرم لما انتهى ظلمهم واشتد كفرهم دعا عليهم نبيهم بدعوة أحاطت بهم فقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا الآيات.
وهنا قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا أي أهلك الباغي منا وهو يعلم أنهم البغاة الظلمة ولهذا قال وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ من الخلق والحيوانات.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ أي بعد نوح ومن معه من المؤمنين الْبَاقِينَ أي جميع قومه.
إِنَّ فِي ذَلِكَ أي نجاة نوح وأتباعه وإهلاك من كذبه لآيَةً دالة على صدق رسلنا وصحة ما جاءوا به وبطلان ما عليه أعداؤهم المكذبون بهم .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي قهر بعزه أعداءه فأغرقهم بالطوفان الرَّحِيمُ بأوليائه حيث نجى نوحا ومن معه من أهل الإيمان.
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ( 123 - 140 ) إلى آخر القصة.
أي: كذبت القبيلة المسماة عادا, رسولهم هودا، وتكذيبهم له تكذيب لغيره, لاتفاق الدعوة.
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب هُودٌ بلطف وحسن خطاب: أَلا تَتَّقُونَ الله, فتتركون الشرك وعبادة غيره.
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي: أرسلني الله إليكم, رحمة بكم, واعتناء بكم، وأنا أمين, تعرفون ذلك مني, رتب على ذلك قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ .
أي: أدوا حق الله تعالى, وهو التقوى, وأدوا حقي, بطاعتي فيما آمركم به, وأنهاكم عنه, فهذا موجب, لأن تتبعوني وتطيعوني وليس ثَمَّ مانع يمنعكم من الإيمان، فلست أسألكم على تبليغي إياكم, ونصحي لكم, أجرا, حتى تستثقلوا ذلك المغرم. إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الذي رباهم بنعمه, وأدرَّ عليهم فضله وكرمه, خصوصا ما ربَّى به أولياءه وأنبياءه.
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي: مدخل بين الجبال آيَةً أي: علامة تَعْبَثُونَ أي: تفعلون ذلك عبثا لغير فائدة تعود بمصالح دينكم ودنياكم.
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ أي: بركا ومجابي للحياة لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ والحال أنه لا سبيل إلى الخلود لأحد.
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بالخلق بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ قتلا وضربا, وأخذ أموال. وكان الله تعالى قد أعطاهم قوة عظيمة, وكان الواجب عليهم أن يستعينوا بقوتهم على طاعة الله, ولكنهم فخروا, واستكبروا, وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً واستعملوا قوتهم في معاصي الله, وفي العبث والسفه, فلذلك نهاهم نبيهم عن ذلك.
فَاتَّقُوا اللَّهَ واتركوا شرككم وبطركم وَأَطِيعُونِ حيث علمتم أني رسول الله إليكم, أمين ناصح.
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ أي: أعطاكم بِمَا تَعْلَمُونَ أي: أمدكم بما لا يجهل ولا ينكر من الإنعام.
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ من إبل وبقر وغنم وَبَنِينَ أي: وكثرة نسل، كثر أموالكم, وكثر أولادكم, خصوصا الذكور, أفضل القسمين.
هذا تذكيرهم بالنعم, ثم ذكرهم حلول عذاب الله فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .
أي: إني - من شفقتي عليكم وبري بكم - أخاف أن ينزل بكم عذاب يوم عظيم, إذا نزل لا يرد, إن استمريتم على كفركم وبغيكم.
فقالوا معاندين للحق مكذبين لنبيهم: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ أي: الجميع على حد سواء، وهذا غاية العتو, فإن قوما بلغت بهم الحال إلى أن صارت مواعظ الله, التي تذيب الجبال الصم الصلاب, وتتصدع لها أفئدة أولي الألباب, وجودها وعدمها - عندهم- على حد سواء، لقوم انتهى ظلمهم, واشتد شقاؤهم, وانقطع الرجاء من هدايتهم، ولهذا قالوا:
إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ .
أي: هذه الأحوال والنعم, ونحو ذلك, عادة الأولين, تارة يستغنون, وتارة يفتقرون، وهذه أحوال الدهر, لا أن هذه محن ومنح من الله تعالى, وابتلاء لعباده.
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وهذا إنكار منهم للبعث، أو تنزل مع نبيهم وتهكم به، إننا على فرض أننا نبعث, فإننا كما أدرَّت علينا النعم في الدنيا, كذلك لا تزال مستمرة علينا إذا بعثنا.
فَكَذَّبُوهُ أي: صار التكذيب سجية لهم وخلقا, لا يردعهم عنه رادع، فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً على صدق نبينا هود عليه السلام وصحة ما جاء به وبطلان ما عليه قومه من الشرك والجبروت وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع وجود الآيات المقتضية للإيمان
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي أهلك بقوته قوم هود على قوتهم وبطشهم
الرَّحِيمُ بنبيه هود حيث نجاه ومن معه من المؤمنين
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 141 - 159 [/b]) إلى آخر القصة.
( كَذَّبَتْ ثَمُودُ ) القبيلة المعروفة في مدائن الحجر ( الْمُرْسَلِينَ ) كذبوا صالحا عليه السلام, الذي جاء بالتوحيد, الذي دعت إليه المرسلون, فكان تكذيبهم له تكذيبا للجميع.
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ في النسب, برفق ولين: أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى, وتدعون الشرك والمعاصي.
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله ربكم, أرسلني إليكم, لطفا بكم ورحمة, فتلقوا رحمته بالقبول, وقابلوها بالإذعان، أَمِينٌ تعرفون ذلك مني, وذلك يوجب عليكم أن تؤمنوا بي, وبما جئت به.
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ فتقولون: يمنعنا من اتباعك, أنك تريد أخذ أموالنا، إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: لا أطلب الثواب إلا منه.
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ أي نضيد كثير أي أتحسبون أنكم تتركون في هذه الخيرات والنعم سدى تتنعمون وتتمتعون كما تتمتع الأنعام وتتركون سدى لا تؤمرون ولا تنهون وتستعينون بهذه النعم على معاصي الله
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ أي بلغت بكم الفراهة والحذق إلى أن اتخذتم بيوتا من الجبال الصم الصلاب
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الذين تجاوزوا الحد
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي الذين وصفهم ودأبهم الإفساد في الأرض بعمل المعاصي والدعوة إليها إفسادا لا إصلاح فيه وهذا أضر ما يكون لأنه شر محض وكأن أناسا عندهم مستعدون لمعارضة نبيهم موضعون في الدعوة لسبيل الغي فنهاهم صالح عن الاغترار بهم ولعلهم الذين قال الله فيهم وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ فلم يفد فيهم هذا النهي والوعظ شيئا فقالوا لصالح إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي قد سحرت فأنت تهذي بما لا معنى له
مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فأي فضيلة فقتنا بها حتى تدعونا إلى اتباعك؟ فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ هذا مع أن مجرد اعتبار حالته وحالة ما دعا إليه من أكبر الآيات البينات على صحة ما جاء به وصدقه ولكنهم من قسوتهم سألوا آيات الاقتراح التي في الغالب لا يفلح من طلبها لكون طلبه مبنيا على التعنت لا على الاسترشاد
فقال صالح هَذِهِ نَاقَةٌ تخرج من صخرة صماء ملساء ترونها وتشاهدونها بأجمعكم لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي تشرب ماء البئر يوما وأنتم تشربون لبنها ثم تصدر عنكم اليوم الآخر وتشربون أنتم ماء البئر
وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ بعقر أو غيره فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فخرجت واستمرت عندهم بتلك الحال فلم يؤمنوا واستمروا على طغيانهم
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وهي صيحة نزلت عليهم, فدمرتهم أجمعين، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً على صدق ما جاءت به رسلنا, وبطلان قول معارضيهم، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ .
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ( 160 - 175 ) إلى آخر القصة.
قال لهم وقالوا كما قال من قبلهم, تشابهت قلوبهم في الكفر, فتشابهت أقوالهم، وكانوا - مع شركهم - يأتون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، يختارون نكاح الذكران, المستقذر الخبيث, ويرغبون عما خلق لهم من أزواجهم لإسرافهم وعدوانهم فلم يزل ينهاهم حتى قَالُوا له لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي: من البلد، فلما رأى استمرارهم عليه قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ أي: المبغضين له الناهين عنه، المحذرين.
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من فعله وعقوبته فاستجاب الله له.
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ أي الباقين في العذاب وهي امرأته.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا أي حجارة من سجيل فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أهلكهم الله عن آخرهم.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ( 176 - 191 ) .
أصحاب الأيكة: أي: البساتين الملتفة أشجارها وهم أصحاب مدين, فكذبوا نبيهم شعيبا, الذي جاء بما جاء به المرسلون.
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى, فتتركون ما يسخطه ويغضبه, من الكفر والمعاصي.
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ يترتب على ذلك, أن تتقوا الله وتطيعون.
وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكاييل والموازين, فلذلك قال لهم: أَوْفُوا الْكَيْلَ أي: أتموه وأكملوه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الذين ينقصون الناس أموالهم ويسلبونها ببخس المكيال والميزان.
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي: بالميزان العادل, الذي لا يميل.
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ أي: الخليقة الأولين، فكما انفرد بخلقكم, وخلق من قبلكم من غير مشارك له في ذلك, فأفردوه بالعبادة والتوحيد، وكما أنعم عليكم بالإيجاد والإمداد بالنعم, فقابلوه بشكره.
قالوا له, مكذبين له, رادين لقوله: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فأنت تهذي وتتكلم كلام المسحور, الذي غايته أن لا يؤاخذ به.
وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فليس فيك فضيلة, اختصصت بها علينا, حتى تدعونا إلى اتباعك، وهذا مثل قول من قبلهم ومن بعدهم, ممن عارضوا الرسل بهذه الشبهة، التي لم يزالوا, يدلون بها ويصولون, ويتفقون عليها, لاتفاقهم على الكفر, وتشابه قلوبهم.
وقد أجابت عنها الرسل بقولهم: إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .
وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وهذا جراءة منهم وظلم, وقول زور, قد انطووا على خلافه، فإنه ما من رسول من الرسل, واجه قومه ودعاهم, وجادلهم وجادلوه, إلا وقد أظهر الله على يديه من الآيات, ما به يتيقنون صدقه وأمانته, خصوصا شعيبا عليه السلام, الذي يسمى خطيب الأنبياء, لحسن مراجعته قومه, ومجادلتهم بالتي هي أحسن، فإن قومه قد تيقنوا صدقه, وأن ما جاء به حق, ولكن إخبارهم عن ظن كذبه, كذب منهم.
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ أي: قطع عذاب تستأصلنا. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ كقول إخوانهم وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أو أنهم طلبوا بعض آيات الاقتراح, التي لا يلزم تتميم مطلوب من سألها.
قَالَ شعيب عليه السلام: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ أي: نزول العذاب, ووقوع آيات الاقتراح, لست أنا الذي آتي بها وأنزلها بكم, وليس علي إلا تبليغكم ونصحكم وقد فعلت، وإنما الذي يأتي بها ربي، العالم بأعمالكم وأحوالكم, الذي يجازيكم ويحاسبكم.
فَكَذَّبُوهُ أي: صار التكذيب لهم, وصفا والكفر لهم ديدنا, بحيث لا تفيدهم الآيات, وليس بهم حيلة إلا نزول العذاب.
فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها مستلذين, لظلها غير الظليل, فأحرقتهم بالعذاب, فظلوا تحتها خامدين, ولديارهم مفارقين, ولدار الشقاء والعذاب نازلين.
إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لا كرة لهم إلى الدنيا, فيستأنفوا العمل، ولا يفتر عنهم العذاب ساعة, ولا هم ينظرون.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً دالة على صدق شعيب, وصحة ما دعا إليه, وبطلان رد قومه عليه، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ مع رؤيتهم الآيات, لأنهم لا زكاء فيهم, ولا خير لديهم وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي امتنع بقدرته, عن إدراك أحد, وقهر كل مخلوق. الرَّحِيمُ الذي الرحمة وصفه ومن آثارها, جميع الخيرات في الدنيا والآخرة, من حين أوجد الله العالم إلى ما لا نهاية له. ومن عزته أن أهلك أعداءه حين كذبوا رسله، ومن رحمته, أن نجى أولياءه ومن اتبعهم من المؤمنين.
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 192 [/b]) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 193 [/b]) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 194 [/b]) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 195 [/b]) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 196 [/b]) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 197 [/b]) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 198 [/b]) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 199 [/b]) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 200 [/b]) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 201 [/b]) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 202 [/b]) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 203 [/b]) .
لما ذكر قصص الأنبياء مع أممهم, وكيف دعوهم, و [ ما ] ردوا عليهم به; وكيف أهلك الله أعداءهم, وصارت لهم العاقبة.
ذكر هذا الرسول الكريم, والنبي المصطفى العظيم وما جاء به من الكتاب, الذي فيه هداية لأولي الألباب فقال: ( وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فالذي أنزله, فاطر الأرض والسماوات, المربي جميع العالم, العلوي والسفلي، وكما أنه رباهم بهدايتهم لمصالح دنياهم وأبدانهم, فإنه يربيهم أيضا, بهدايتهم لمصالح دينهم وأخراهم، ومن أعظم ما رباهم به, إنزال هذا الكتاب الكريم, الذي اشتمل على الخير الكثير, والبر الغزير، وفيه من الهداية, لمصالح الدارين, والأخلاق الفاضلة, ما ليس في غيره، وفي قوله: ( وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) من تعظيمه وشدة الاهتمام فيه, من كونه نزل من الله, لا من غيره, مقصودا فيه نفعكم وهدايتكم.
( نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ) وهو جبريل عليه السلام, الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم ( الأمِينُ ) الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص.
( عَلَى قَلْبِكَ ) يا محمد ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) تهدي به إلى طريق الرشاد, وتنذر به عن طريق الغي.
( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ ) وهو أفضل الألسنة, بلغة من بعث إليهم, وباشر دعوتهم أصلا اللسان البين الواضح. وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم، فإنه أفضل الكتب, نزل به أفضل الملائكة, على أفضل الخلق, على أفضل بضعة فيه وهي قلبه، على أفضل أمة أخرجت للناس, بأفضل الألسنة وأفصحها, وأوسعها, وهو: اللسان العربي المبين.
( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ ) أي: قد بشرت به كتب الأولين وصدقته، وهو لما نزل, طبق ما أخبرت به, صدقها, بل جاء بالحق, وصدق المرسلين.
( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ) على صحته, وأنه من الله ( أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الذي قد انتهى إليهم العلم, وصاروا أعلم الناس, وهم أهل الصنف، فإن كل شيء يحصل به اشتباه, يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية, فيكون قولهم حجة على غيرهم، كما عرف السحرة الذين مهروا في علم السحر, صدق معجزة موسى, وأنه ليس بسحر، فقول الجاهلين بعد هذا, لا يؤبه به.
( وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ) الذين لا يفقهون لسانهم, ولا يقدرون على التعبير لهم كما ينبغي.
( فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) يقولون: ما نفقه ما يقول, ولا ندري ما يدعو إليه، فليحمدوا ربهم, أن جاءهم على لسان أفصح الخلق, وأقدرهم على التعبير عن المقاصد, بالعبارات الواضحة, وأنصحهم، وليبادروا إلى التصديق به, وتلقيه بالتسليم والقبول، ولكن تكذيبهم له من غير شبهة, إن هو إلا محض الكفر والعناد, وأمر قد توارثته الأمم المكذبة, فلهذا قال: ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) أي: أدخلنا التكذيب, وأنظمناه في قلوب أهل الإجرام, كما يدخل السلك في الإبرة, فتشربته, وصار وصفا لها، وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم, فلذلك: ( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ ) على تكذيبهم.
( فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي: يأتيهم على حين غفلة, وعدم إحساس منهم, ولا استشعار بنزوله, ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم.
( فَيَقُولُوا ) إذ ذاك: ( هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) أي: يطلبون أن ينظروا ويمهلوا، والحال إنه قد فات الوقت, وحل بهم العذاب الذي لا يرفع عنهم, ولا يفتر ساعة.
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 204 [/b]) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 205 [/b]) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 206 [/b]) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 207 [/b]) .
يقول تعالى: ( أَفَبِعَذَابِنَا ) الذي هو العذاب الأليم العظيم, الذي لا يستهان به, ولا يحتقر، ( يَسْتَعْجِلُونَ ) فما الذي غرهم؟ هل فيهم قوة وطاقة, للصبر عليه؟ أم عندهم قوة يقدرون على دفعه أو رفعه إذا نزل؟ أم يعجزوننا, ويظنون أننا لا نقدر على ذلك؟.
( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ) أي: أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم, بإنزال العذاب, وأمهلناهم عدة سنين, يتمتعون في الدنيا ( ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ) من العذاب.
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ من اللذات والشهوات، أي: أي شيء يغني عنهم, ويفيدهم, وقد مضت وبطلت واضمحلت, وأعقبت تبعاتها, وضوعف لهم العذاب عند طول المدة. القصد أن الحذر, من وقوع العذاب, واستحقاقهم له. وأما تعجيله وتأخيره, فلا أهمية تحته, ولا جدوى عنده.
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 208 [/b]) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 209 [/b]) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 210 [/b]) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 211 [/b]) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 212 [/b]) .
يخبر تعالى عن كمال عدله, في إهلاك المكذبين, وأنه ما أوقع بقرية, هلاكا وعذابا, إلا بعد أن يعذر بهم, ويبعث فيهم النذر بالآيات البينات, ويدعونهم إلى الهدى, وينهونهم عن الردى, ويذكرونهم بآيات الله, وينبهونهم على أيامه في نعمه ونقمه.
( ذِكْرَى ) لهم وإقامة حجة عليهم. ( وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ) فنهلك القرى, قبل أن ننذرهم, ونأخذهم وهم غافلون عن النذر, كما قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ .
ولما بيَّن تعالى كمال القرآن وجلالته, نزهه عن كل صفة نقص, وحماه - وقت نزوله, وبعد نزوله - من شياطين الجن والإنس فقال: ( وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ ) أي: لا يليق بحالهم ولا يناسبهم ( وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) ذلك.
( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) قد أبعدوا عنه, وأعدت لهم الرجوم لحفظه, ونزل به جبريل, أقوى الملائكة, الذي لا يقدر شيطان أن يقربه, أو يحوم حول ساحته، وهذا كقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 213 [/b]) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 214 [/b]) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 215 [/b]) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 216 [/b]) .
ينهى تعالى رسوله أصلا وأمته أسوة له في ذلك, عن دعاء غير الله, من جميع المخلوقين, وأن ذلك موجب للعذاب الدائم, والعقاب السرمدي, لكونه شركا، و مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ والنهي عن الشيء, أمر بضده، فالنهي عن الشرك, أمر بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له, محبة, وخوفا, ورجاء, وذلا وإنابة إليه في جميع الأوقات. ولما أمره بما فيه كمال نفسه, أمره بتكميل غيره فقال: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) .
الذين هم أقرب الناس إليك, وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي, وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس، كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان, ثم قيل له « أحسن إلى قرابتك » فيكون هذا خصوصا دالا على التأكيد, وزيادة الحق، فامتثل صلى الله عليه وسلم, هذا الأمر الإلهي, فدعا سائر بطون قريش, فعمم وخصص, وذكرهم ووعظهم, ولم يُبْق صلى الله عليه وسلم من مقدوره شيئا, من نصحهم, وهدايتهم, إلا فعله, فاهتدى من اهتدى, وأعرض من أعرض.
( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بلين جانبك, ولطف خطابك لهم, وتوددك, وتحببك إليهم, وحسن خلقك والإحسان التام بهم، وقد فعل صلى الله عليه وسلم, ذلك كما قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم, أكمل الأخلاق, التي يحصل بها من المصالح العظيمة, ودفع المضار, ما هو مشاهد، فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله, ويدعي اتباعه والاقتداء به, أن يكون كلا على المسلمين, شرس الأخلاق, شديد الشكيمة عليهم , غليظ القلب, فظ القول, فظيعه؟ [ و ] إن رأى منهم معصية, أو سوء أدب, هجرهم, ومقتهم, وأبغضهم، لا لين عنده, ولا أدب لديه, ولا توفيق، قد حصل من هذه المعاملة, من المفاسد, وتعطيل المصالح ما حصل, ومع ذلك تجده محتقرا لمن اتصف بصفات الرسول الكريم, وقد رماه بالنفاق والمداهنة, وقد كمَّل نفسه ورفعها, وأعجب بعمله، فهل هذا إلا من جهله, وتزيين الشيطان وخدعه له، ولهذا قال الله لرسوله: ( فَإِنْ عَصَوْكَ ) في أمر من الأمور, فلا تتبرأ منهم, ولا تترك معاملتهم, بخفض الجناح, ولين الجانب، بل تبرأ من عملهم, فعظهم عليه وانصحهم, وابذل قدرتك في ردهم عنه, وتوبتهم منه، وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم, أن قوله ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ) للمؤمنين, يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم, ما داموا مؤمنين, فدفع هذا بهذا والله أعلم.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 217 [/b]) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 218 [/b]) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 219 [/b]) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 220 [/b]) .
أعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به, الاعتماد على ربه, والاستعانة بمولاه على توفيقه للقيام بالمأمور, فلذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) والتوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى, في جلب المنافع, ودفع المضار, مع ثقته به, وحسن ظنه بحصول مطلوبه, فإنه عزيز رحيم, بعزته يقدر على إيصال الخير, ودفع الشر عن عبده, وبرحمته به, يفعل ذلك.
ثم نبهه على الاستعانة باستحضار قرب الله, والنزول في منزل الإحسان فقال: ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ * تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) أي: يراك في هذه العبادة العظيمة, التي هي الصلاة, وقت قيامك, وتقلبك راكعا وساجدا خصها بالذكر, لفضلها وشرفها, ولأن من استحضر فيها قرب ربه, خشع وذل, وأكملها, وبتكميلها, يكمل سائر عمله, ويستعين بها على جميع أموره.
( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ) لسائر الأصوات على اختلافها وتشتتها وتنوعها، ( الْعَلِيمُ ) الذي أحاط بالظواهر والبواطن, والغيب والشهادة. فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله, وسمعه لكل ما ينطق به, وعلمه بما ينطوي عليه قلبه, من الهم, والعزم, والنيات, مما يعينه على منزلة الإحسان.
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 221 [/b]) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 222 [/b]) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 223 [/b]) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:
normal"] 224 [/b]) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 225 [/b]) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 226 [/b]) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ([b style="mso-ansi-font-weight:normal"] 227 [/b]) .
هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول: إن محمدا ينزل عليه شيطان. وقول من قال: إنه شاعر فقال: ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ) أي: أخبركم الخبر الحقيقي الذي لا شك فيه ولا شبهة, على من تنزل الشياطين، أي: بصفة الأشخاص, الذين تنزل عليهم الشياطين.
( تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ ) أي: كذاب, كثير القول للزور, والإفك بالباطل، ( أَثِيمٍ ) في فعله, كثير المعاصي، هذا الذي تنزل عليه الشياطين, وتناسب حاله حالهم.
( يُلْقُونَ ) عليه ( السَّمْعَ ) الذي يسترقونه من السماء، ( وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ) أي: أكثر ما يلقون إليه كذب فيصدق واحدة, ويكذب معها مائة, فيختلط الحق بالباطل, ويضمحل الحق بسبب قلته, وعدم علمه. فهذه صفة الأشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين, وهذه صفة وحيهم له.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم, فحاله مباينة لهذه الأحوال أعظم مباينة, لأنه الصادق الأمين, البار الراشد, الذي جمع بين بر القلب, وصدق اللهجة, ونزاهة الأفعال من المحرم.
والوحي الذي ينزل عليه من عند الله, ينزل محروسا محفوظا, مشتملا على الصدق العظيم, الذي لا شك فيه ولا ريب، فهل يستوي - يا أهل العقول - هذا وأولئك؟ وهل يشتبهان, إلا على مجنون, لا يميز, ولا يفرق بين الأشياء؟.
فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه, برَّأه أيضا من الشعر فقال: ( وَالشُّعَرَاءُ ) أي: هل أنبئكم أيضا عن حالة الشعراء, ووصفهم الثابت، فإنهم ( يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) عن طريق الهدى, المقبلون على طريق الغي والردى، فهم في أنفسهم غاوون, وتجد أتباعهم كل غاو ضال فاسد.
( أَلَمْ تَرَ ) غوايتهم وشدة ضلالهم ( أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ ) من أودية الشعر، ( يَهِيمُونَ ) فتارة في مدح, وتارة في قدح, وتارة في صدق، وتارة في كذب، وتارة يتغزلون, وأخرى يسخرون, ومرة يمرحون, وآونة يحزنون, فلا يستقر لهم قرار, ولا يثبتون على حال من الأحوال.
( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ) أي: هذا وصف الشعراء, أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق, قلت: هذا أشد الناس غراما, وقلبه فارغ من ذاك, وإذا سمعته يمدح أو يذم, قلت: هذا صدق, وهو كذب، وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها, وتروك لم يتركها, وكرم لم يحم حول ساحته, وشجاعة يعلو بها على الفرسان, وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم.
فانظر, هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, الراشد البار, الذي يتبعه كل راشد ومهتد, الذي قد استقام على الهدى, وجانب الردى, ولم تتناقض أفعاله ولم تخالف أقواله أفعاله؟ الذي لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر، ولا أخبر بشيء إلا صدق, ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له, ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له.
فهل تناسب حاله, حالة الشعراء, أو يقاربهم؟ أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟ فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأكمل, والهمام الأفضل, أبد الآبدين, ودهر الداهرين, الذي ليس بشاعر, ولا ساحر, ولا مجنون, ولا يليق به إلا كل كمال.
ولما وصف الشعراء بما وصفهم به, استثنى منهم من آمن بالله ورسوله, وعمل صالحا, وأكثر من ذكر الله, وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم.
فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة, وآثار إيمانهم, لاشتماله على مدح أهل الإيمان, والانتصار من أهل الشرك والكفر, والذب عن دين الله, وتبيين العلوم النافعة, والحث على الأخلاق الفاضلة فقال: ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ينقلبون إلى موقف وحساب, لا يغادر صغيرة ولا كبيرة, إلا أحصاها, ولا حقا إلا استوفاه. والحمد لله رب العالمين.
الموضوع الأصلي : تفسير سورة الشعراء // المصدر : منتديات فرتكة // الكاتب: على السلت